ثم زرنا ديوبند ولكنو
د. عائض القرني
في ختام زيارتي للهند أنا وأصحابي المشايخ توجهنا إلى جامعة دار العلوم بديوبند وهي جامعة إسلامية عريقة جداً، بل هي أشهر جامعة في القارة الهندية، وما من جامعة في الهند أو باكستان أو مسجد أو معهد إلا وفيه خريج درس في تلك الجامعة، فاستقبلنا علماؤها الأجلاء بتواضع وأريحيّة، واجتمعنا بالأساتذة في كل التخصصات، فوجدنا العلم واللطف والزهد، ولله ما أعظم هذا الدين جعل أتباعه يتفانون في نصرته من مفسر ومحدّث وفقيه ومؤرخ وأديب وكاتب وطبيب ومهندس، وهذه الجامعة مدينة مستقلة بكلياتها وأسواقها، ومساكن طلابها وقد حضرنا صلاة الجمعة، وأُسندت لي الخطبة، فكان الحديث عن واجبنا نحو رسالة الإسلام ووجوب توحيد المسلمين وجمع كلمتهم ونبذ الفرقة والدعوة للوسطية وشرح قول المولى عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)، ثم عقّب مشايخهم بالترحاب وأثنوا على العرب الأوائل الذين حملوا النور للعالم ووزّعوا الهداية على البشرية، ثم أقمنا في سكنهم يوماً وليلة في مدارسات علمية وحوار نافع مفيد وجلسات أخوية، ثم امتطينا الطائرة إلى مدينة لكنو حيث ندوة العلماء التي أسسها سماحة الشيخ العلامة الأديب الكبير السيد أبو الحسن الندوي، فوجدنا هذه الجامعة جمعت بين الأصالة والمعاصرة فرحّبوا بنا وكانت التحيّة منا الإشادة بتاريخ أبي الحسن الندوي بذكر كتبه ومآثره، وقام خطباؤهم فكان بعضهم أفصح من كثير من أبناء العربية في بلاد العرب، وكان حديثهم عن الاعتزاز بالإسلام والتّشرف بحمل الرسالة الإسلامية للعالم والدعوة للتجديد، والذي أذهلني في الهند هذه المدارس الفقهية والمشارب المذهبيّة والجماعات الإسلامية تحت مظلة الإسلام من أهل الحديث ومن السلفيين والأحناف والمالكية والشوافع والتبليغ والإخوان والجماعة الإسلامية وجماعات أخرى، كلهم يعمل للإسلام ويتفانى في خدمة الدين، والعجيب في الهند أننا نسبح في قارة مترامية الأطراف وهي تسابق الزمن في التمدن والحضارة، وبها طرق تشقها من الشرق للغرب ومن الشمال إلى الجنوب بالتوازي، فطريق معبّد للسيارات وطريق للقطار وطريق ثالث للخدمات من نفط وغاز وكهرباء ونحوه، والهدوء في الهند مستتب وأصبح هناك مصالحة بين فئات الشعب الهندي، والهند مضرب المثل حتى في العالم الغربي بالديمقراطية والتناول السلمي للسلطة، وهي من الدول الرائدة بالكمبيوتر ومشتقاته، والهند تسعى حثيثة لتكون في مصاف الدول الخمس الكبرى؛ فعندها كل مقومات الرقي والتّمدن، ولا يظن أحد إذا شاهد العمالة الهندية عندنا أن الهند أمة فقيرة متخلّفة، بل هم أهل تاريخ وحضارة ومسيرة ضاربة في عمق الزمن، وعندهم أدمغة لا تسافر إلينا منهمكة في المصانع والمعامل، ويشرّفنا نحن المسلمين أن مكتشف القنبلة الذريّة هو مسلم وهو الدكتور البروفسور أبو الكلام الذي كافأه الشعب الهندي بأن جعلوه رئيساً للدولة قبل سنوات، وقد انتهت مدة رئاسته، والهند مهرجان كبير متنوع الثقافات متعدد الأعراق غني بالموارد والعلوم والفنون، والطبيعة هناك ساحرة آسرة، فبينما تمشي بجانب نهر مطّرد يفاجئك جبل شامخ شاهق، ثم تستقبلك صحراء جرداء مد البصر، ثم تعود إلى مدرجات خضراء، ثم تهبط إلى أودية وغابات، فسبحان الخالق المبدع المصور: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)، والأمة الهندية كالذّر يمشي على الأرض وكالنمل يزحف على البسيطة؛ فالطرقات والميادين والعمارات يملأها البشر، ولك أن تتصورأن ولاية بومباي وحدها بضواحيها يسكن بها مائة مليون، وعدد المسلمين في الهند يقارب أربعمائة مليون، ولهم ثقل سياسي واقتصادي، والدولة هناك تحسب لهم ألف حساب، بل هم مشاركون في صنع القرار، وطبيعة الهندي اللطف والوداعة مع الذكاء وحب المسالمة بخلاف الباكستاني والأفغاني؛ فإنهم أشاوس أشداء وأقوياء ومقاتلون من الدرجة الأولى، حتى قال بعض حكماء الهند: الهند تهدي الأفغان الحكماء، والأفغان يهدون للهند الملوك، بعد هذه الرحلة الأخيرة عندي والمحفوظة في خلدي والمرسومة في ذاكرتي ودّعنا إخواننا وأصدقاءنا في مطار نيودلهي المطار الجديد العالمي المركّب، وكان الدعاء والأخذ بالأحضان والشكر والثناء منا ومنهم، وتذكرتُ قول زميلي وصديقي آية الله أبي الطيب المتنبي
فِراقٌ وَمَنْ فَارَقْتُ غَيرُ مُذَمَّـمِ وَأَمٌّ وَمَنْ يَمّمْتُ خيرُ مُيَمَّمِ
وَمَا مَنـزِلُ اللّذّاتِ عِندي بمَنْزِلٍ إذا لم أُبَجَّلْ عِنْدَهُ وَأُكَـرَّمِ
No comments:
Post a Comment