My Blog List

Monday, November 02, 2020

الفرق الضالة و سببها

الفرق الضالة و سببها  



وَالْمُعْتَزِلَةُ : هُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ وَأَصْحَابُهُمَا ، سُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ ، فَيَقُولُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ : أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ

 وَقِيلَ : إِنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ هُوَ الَّذِي وَضَعَ أُصُولَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ تِلْمِيذُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ لَهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ ، وَبَيَّنَ مَذْهَبَهُمْ ، وَبَنَى مَذْهَبَهُمْ عَلَى الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ ، الَّتِي سَمَّوْهَا : الْعَدْلَ ، وَالتَّوْحِيدَ ، وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ، وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ! وَلَبَّسُوا فِيهَا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، إِذْ شَأْنُ الْبِدَعِ هَذَا ، اشْتِمَالُهَا عَلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ .
 

وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ ، لِأَنَّهُمْ قَاسُوا أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ ،
وَجَعَلُوا مَا يَحْسُنُ مِنَ الْعِبَادِ يَحْسُنُ مِنْهُ ، وَمَا يَقْبُحُ مِنَ الْعِبَادِ يَقْبُحُ مِنْهُ ! وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ! ! فَإِنَّ السَّيِّدَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَوْ رَأَى عَبِيدَهُ تَزْنِي بِإِمَائِهِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَعُدَّ إِمَّا مُسْتَحْسِنًا لِلْقَبِيحِ ، وَإِمَّا عَاجِزًا ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ ؟ ! وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ .
 

فَأَمَّا الْعَدْلُ ، فَسَتَرُوا تَحْتَهُ نَفْيَ الْقَدَرِ ، وَقَالُوا : إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ وَلَا يَقْضِي بِهِ ، إِذْ لَوْ خَلَقَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا ! ! وَاللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَجُورُ . وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ ، فَيُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ، وَلَازِمُهُ وَصْفُهُ بِالْعَجْزِ ! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
 

وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَسَتَرُوا تَحْتَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ،
إِذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ ! ! وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسَائِرَ صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ ، أَوِ التَّنَاقُضُ ! .
 

وَأَمَّا الْوَعِيدُ ، فَقَالُوا : إِذَا أَوْعَدَ بَعْضَ عَبِيدِهِ وَعِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَيُخْلِفَ وَعِيدَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَلَا يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ ، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُرِيدُ ، عِنْدَهُمْ ! ! وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ ! !
 


وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا :
عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَ غَيْرَنَا بِمَا أُمِرْنَا بِهِ ، وَأَنْ نُلْزِمَهُ بِمَا يَلْزَمُنَا ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَضَمَّنُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ بِالْقِتَالِ إِذَا جَارُوا ! ! وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ هَذِهِ الشُّبَهِ الْخَمْسِ فِي مَوَاضِعِهَا . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مِنَ الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ السَّمْعِ إِلَّا بَعْدَهَا ، وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ، إِنَّمَا يَذْكُرُونَهَا لِلِاعْتِضَادِ بِهَا ، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا ، فَهُمْ يَقُولُونَ : لَا تَثْبُتُ هَذِهِ بِالسَّمْعِ ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ ! فَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُهَا فِي الْأُصُولِ ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُهَا لِيُبَيِّنَ مُوَافَقَةَ السَّمْعِ لِلْعَقْلِ ، وَلِإِينَاسِ النَّاسِ بِهَا ، لَا لِلِاعْتِمَادِ
 

عَلَيْهَا ! وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى النِّصَابِ ! وَالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بِعَسْكَرٍ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمْ ! وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَاتَّفَقَ أَنَّ الشَّرْعَ مَا يَهْوَاهُ ! ! كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إِذَا وَافَقَ هَوَاهُ ، وَيُخَالِفُهُ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ ، فَإِذًا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا وَافَقْتَهُ مِنَ الْحَقِّ ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكْتَهُ مِنْهُ ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا اتَّبَعْتَ هَوَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَكَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، وَالْعَمَلُ يَتْبَعُ قَصْدَ صَاحِبِهِ وَإِرَادَتَهُ ، فَالِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ يَتْبَعُ أَيْضًا عِلْمَ ذَلِكَ وَتَصْدِيقَهُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ كَانَ مِنَ الْإِيمَانِ ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا كَانَ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَانَ صَالِحًا ، وَإِلَّا فَلَا ، فَقَوْلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّابِعُ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ ، كَعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ التَّابِعِ لِغَيْرِ قَصْدِ أَهْلِ الصَّلَاحِ . وَفِي الْمُعْتَزِلَةِ زَنَادِقَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَفِيهِمْ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا 


 ** *** *** *** *** *


وَالْجَهْمِيَّةُ : هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ التِّرْمِذِيِّ ، وَهُوَ الَّذِي أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلَ ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، الَّذِي ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطَ ، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى ، وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ! ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ عُلَمَاءِ زَمَانِهِ ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى . وَكَانَ

جَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ ، فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا نَاسٌ ،:  بَعْدَ أَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا شَكًّا فِي رَبِّهِ ! وَكَانَ ذَلِكَ لِمُنَاظَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، يُقَالُ لَهُمُ السُّمَنِيَّةُ ، مِنْ فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ ، الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ ، قَالُوا لَهُ : هَذَا رَبُّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ ، هَلْ يُرَى أَوْ يُشَمُّ أَوْ يُذَاقُ أَوْ يُلْمَسُ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالُوا : هُوَ مَعْدُومٌ ! ! فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَعْبُدُ شَيْئًا ، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُودٍ يَأْلَهُهُ ، نَقَشَ الشَّيْطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ ، فَقَالَ : إِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ ! ! وَنَفَى جَمِيعَ الصِّفَاتِ ، وَاتَّصَلَ بِالْجَعْدِ .
 

وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْجَعْدَ كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِالصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ ، وَأَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ شَيْئًا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ لِدِينِهِمْ ، الْمُتَّصِلِينَ بِلَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ ، السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُتِلَ جَهْمٌ بِخُرَاسَانَ ، قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ وَلَكِنْ كَانَتْ قَدْ فَشَتْ مَقَالَتُهُ فِي النَّاسِ ، وَتَقَلَّدَهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَزِلَةُ .
 وَلَكِنْ كَانَ الْجَهْمُ أَدْخَلَ فِي التَّعْطِيلِ مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةً ، وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ الْأَسْمَاءَ بَلِ الصِّفَاتِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي

الْجَهْمِيَّةِ : هَلْ هُمْ مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَمْ لَا ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ . وَإِنَّمَا اشْتَهَرَتْ مَقَالَةُ

الْجَهْمِيَّةِ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ ، فَإِنَّهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا وَكَثُرُوا ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ مُدَّةً وَاجْتَمَعَ بِهِمْ ، ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طَرَسُوسَ سَنَةَ ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا مَاتَ ، وَرَدُّوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ ، وَفِيهَا كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ بِالْكَلَامِ ، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا بِهِ عَلَيْهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ إِيَّاهُمْ - : جَهْلٌ وَظُلْمٌ ، وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ إِطْلَاقَهُ ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ ، لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ! فَلَمَّا ضَرَبُوهُ قَامَتِ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ ، وَخَافُوا ، فَأَطْلَقُوهُ . وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ .
 

وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ جَهْمٌ : أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ فَقَطْ ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ فَقَطْ ، وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، كَمَا يُقَالُ تَحَرَّكَتِ الشَّجَرَةُ ، وَدَارَ الْفَلَكُ ، وَزَالَتِ الشَّمْسُ ! وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ :

عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ

وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ ؟ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ ، هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا .


 ** *** *** *** *** *


وَالْجَبْرِيَّةُ : أَصْلُ قَوْلِهِمْ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طُولِهِ وَلَوْنِهِ ! وَهُمْ عَكْسُ الْقَدَرِيَّةِ نُفَاةِ الْقَدَرِ ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى الْقَدَرِ لِنَفْيِهِمْ إِيَّاهُ ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ لِنَفْيِهِمُ الْإِرْجَاءَ ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ مُرْجَأٌ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ " قَدَرِيَّةً " لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ ، وَكَمَا يُسَمَّى الَّذِينَ لَا يَجْزِمُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، بَلْ يَغْلُونَ فِي إِرْجَاءِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْأَنْوَاعِ ، فَلَا يَجْزِمُونَ بِثَوَابِ مَنْ تَابَ ، كَمَا لَا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ ، وَكَمَا لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ . وَكَانَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَوْلَى يُرْجِئُونَ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا ، وَلَا يَشْهَدُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ ! ! وَقَدْ وَرَدَ فِي

ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ فِي السُّنَنِ : مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ .
 وَرُوِيَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ ، تَكَلَّمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ ، بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَمِّ الْخَوَارِجِ ، فَإِنَّ فِيهِمْ فِي الصَّحِيحِ وَحْدَهُ عَشَرَةُ أَحَادِيثَ ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْهَا ثَلَاثَةً ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ سَائِرَهَا . وَلَكِنَّ مُشَابَهَتَهُمْ لِلْمَجُوسِ ظَاهِرَةٌ ، بَلْ قَوْلُهُمْ أَرْدَأُ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ ، فَإِنَّ الْمَجُوسَ اعْتَقَدُوا وُجُودَ خَالِقَيْنِ ، وَالْقَدَرِيَّةَ اعْتَقَدُوا خَالِقِينَ ! ! وَهَذِهِ الْبِدَعُ الْمُتَقَابِلَةُ حَدَثَتْ مِنَ الْفِتَنِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ، كَمَا ذَكَرَ

 الْبُخَارِيُّ  فِي

صَحِيحِهِ  عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ الْأُولَى ، يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا . ثُمَّ وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ [ يَعْنِي الْحَرَّةَ ] ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا . ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ ، فَلَمْ تَرْتَفِعْ وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ ، أَيْ عَقْلٌ وَقُوَّةٌ .  

فَالْخَوَارِجُ وَالشِّيعَةُ حَدَثُوا فِي الْفِتْنَةِ الْأُولَى ، وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْجَهْمِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الثَّالِثَةِ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا - يُقَابِلُونَ الْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ ، أُولَئِكَ غَلَوْا فِي عَلِيٍّ ، وَأُولَئِكَ كَفَّرُوهُ ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعِيدِ ، حَتَّى خَلَّدُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي الْوَعْدِ حَتَّى نَفَوْا بَعْضَ الْوَعِيدِ أَعْنِي الْمُرْجِئَةَ !
 وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي التَّنْزِيهِ حَتَّى نَفَوْا الصِّفَاتِ ، وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْإِثْبَاتِ ، حَتَّى وَقَعُوا فِي التَّشْبِيهِ ! وَصَارُوا يَبْتَدِعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَفِيهِمْ مَنِ اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ : الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ ، فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا كُتُبَهُمْ ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ مَا أَدْخَلُوهُ فِي مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ ، وَغَيَّرُوهُ فِي اللَّفْظِ تَارَةً ، وَفِي الْمَعْنَى أُخْرَى ! فَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، وَكَتَمُوا حَقًّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُمْ ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وَتَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ فِي الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالتَّجْسِيمِ ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا

  

وَسَبَبُ ضَلَالِ هَذِهِ الْفِرَقِ وَأَمْثَالِهِمْ ، عُدُولُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [ الْأَنْعَامِ : 153 ] .  

وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ يُوسُفَ : 108 ]

فَوَحَّدَ لَفْظَ صِرَاطِهِ وَسَبِيلِهِ ، وَجَمَعَ السُّبُلَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ . وَقَالَ

ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ، وَقَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ، وَقَالَ : هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ الْأَنْعَامِ : 153 ] .
 

وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اضْطِرَارَ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هِدَايَةِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ ، وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، إِمَّا فَرْضًا أَوِ إِيجَابًا ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ ، الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ وَأَجَلِّهَا . فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [ الْفَاتِحَةِ : 6 - 7 ] . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ

وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟

 قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ : مَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ ، وَمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى . فَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ ، حَتَّى أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَيَسْتَحْسِنُونَ طَرِيقَتَهُمْ ، وَكَذَا شُيُوخُ الْمُعْتَزِلَةِ يَمِيلُونَ إِلَى الْيَهُودِ وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى النَّصَارَى .
 وَأَكْثَرُ الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْعُبَّادِ ، مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى ، وَلِهَذَا يَمِيلُونَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَشُيُوخُ هَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ وَأَهْلَهُ ، وَشُيُوخُ أُولَئِكَ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَيُصَنِّفُونَ فِي ذَمِّ السَّمَاعِ وَالْوَجْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا هَؤُلَاءِ .

 

وَلِفِرَقِ الضَّلَالِ فِي الْوَحْيِ طَرِيقَتَانِ : طَرِيقَةُ التَّبْدِيلِ ، وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ . أَمَّا أَهْلُ التَّبْدِيلِ فَهُمْ نَوْعَانِ : أَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ ، وَأَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ . فَأَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا عَنِ  اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِأُمُورٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ ! لَكِنَّهُمْ خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَتَخَيَّلُونَ بِهِ وَيَتَوَهَّمُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ شَيْءٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ ، وَأَنَّ الْأَبَدَانَ تُعَادُ ، وَأَنَّ لَهُمْ نَعِيمًا مَحْسُوسًا ، وَعِقَابًا مَحْسُوسًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ لِمَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ ! ! وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ قَانُونَهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ .  


وَأَمَّا أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا ! ثُمَّ يَجْتَهِدُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ بِأَنْوَاعِ التَّأْوِيلَاتِ ! ! وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ ، بَلْ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَذَا . وَغَايَةُ مَا مَعَهُمْ إِمْكَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ .
 

وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ ، الَّذِينَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ جَاهِلُونَ ضَالُّونَ ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ ! وَيَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، لَا يَعْلَمُهُ جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه : 5 ] .
 إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [ فَاطِرٍ : 10 ] .  مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ

 وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْآيَاتِ ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى ! ! وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ ! ! ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا وَتُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ! ! وَمَعَ هَذَا ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ ، فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا ، وَقَالُوا مَعَ هَذَا : إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَهَؤُلَاءِ مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً ، وَلِهَذَا يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ مَا يَجْعَلُهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَعْلَمْ مَعَانِيَهَا أَيْضًا ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا ، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَعَلَى مَنْ يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ تِلْكَ النُّصُوصِ ! ! فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُعَلَّمْ ، بَلْ نَحْنُ عَرَفْنَا الْحَقَّ بِعُقُولِنَا ثُمَّ اجْتَهَدْنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُوَافِقُ عُقُولَنَا ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَقْلِيَّاتِ ! ! وَلَا يَفْهَمُونَ السَّمْعِيَّاتِ ! ! وَكُلُّ ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ ، مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاهِيَةِ ، الْمُفْضِيَةِ بِقَائِلِهَا إِلَى الْهَاوِيَةِ .


سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

No comments:

Post a Comment