الفرق الضالة و سببها
وَالْمُعْتَزِلَةُ
: هُمْ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ الْغَزَّالُ وَأَصْحَابُهُمَا
، سُمُّوا بِذَلِكَ لَمَّا اعْتَزَلُوا الْجَمَاعَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فِي
أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ مُعْتَزِلِينَ ،
فَيَقُولُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ : أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةُ
وَقِيلَ : إِنَّ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ هُوَ الَّذِي وَضَعَ
أُصُولَ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَتَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ تِلْمِيذُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فَلَمَّا
كَانَ زَمَنُ هَارُونَ الرَّشِيدِ صَنَّفَ
لَهُمْ أَبُو الْهُذَيْلِ كِتَابَيْنِ ،
وَبَيَّنَ مَذْهَبَهُمْ ، وَبَنَى مَذْهَبَهُمْ عَلَى الْأُصُولِ
الْخَمْسَةِ ، الَّتِي سَمَّوْهَا : الْعَدْلَ ، وَالتَّوْحِيدَ ،
وَإِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ، وَالْمَنْزِلَةَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَالْأَمْرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ! وَلَبَّسُوا فِيهَا الْحَقَّ
بِالْبَاطِلِ ، إِذْ شَأْنُ الْبِدَعِ هَذَا ، اشْتِمَالُهَا عَلَى حَقٍّ
وَبَاطِلٍ .
وَهُمْ مُشَبِّهَةُ الْأَفْعَالِ ، لِأَنَّهُمْ قَاسُوا أَفْعَالَ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَى أَفْعَالِ عِبَادِهِ ، وَجَعَلُوا مَا يَحْسُنُ مِنَ
الْعِبَادِ يَحْسُنُ مِنْهُ ، وَمَا يَقْبُحُ مِنَ الْعِبَادِ يَقْبُحُ مِنْهُ !
وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، وَلَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ
يَفْعَلَ كَذَا ، بِمُقْتَضَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ ! ! فَإِنَّ
السَّيِّدَ مِنْ بَنِي آدَمَ لَوْ رَأَى عَبِيدَهُ تَزْنِي بِإِمَائِهِ وَلَا
يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَعُدَّ إِمَّا مُسْتَحْسِنًا لِلْقَبِيحِ ، وَإِمَّا
عَاجِزًا ، فَكَيْفَ يَصِحُّ قِيَاسُ أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
أَفْعَالِ عِبَادِهِ ؟ ! وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي
مَوْضِعِهِ .
فَأَمَّا الْعَدْلُ ، فَسَتَرُوا تَحْتَهُ نَفْيَ الْقَدَرِ
، وَقَالُوا : إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْلُقُ الشَّرَّ وَلَا يَقْضِي بِهِ ،
إِذْ لَوْ خَلَقَهُ ثُمَّ يُعَذِّبُهُمْ عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ جَوْرًا ! !
وَاللَّهُ تَعَالَى عَادِلٌ لَا يَجُورُ . وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
الْفَاسِدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ ،
فَيُرِيدُ الشَّيْءَ وَلَا يَكُونُ ، وَلَازِمُهُ وَصْفُهُ بِالْعَجْزِ ! تَعَالَى
اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَسَتَرُوا تَحْتَهُ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، إِذْ
لَوْ كَانَ غَيْرَ مَخْلُوقٍ لَزِمَ تَعَدُّدُ الْقُدَمَاءِ ! ! وَيَلْزَمُهُمْ
عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ أَنَّ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَسَائِرَ
صِفَاتِهِ مَخْلُوقَةٌ ، أَوِ التَّنَاقُضُ ! .
وَأَمَّا الْوَعِيدُ ، فَقَالُوا : إِذَا أَوْعَدَ
بَعْضَ عَبِيدِهِ وَعِيدًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ وَيُخْلِفَ
وَعِيدَهُ ، لِأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَلَا يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ
، وَلَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُرِيدُ ، عِنْدَهُمْ ! ! وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ
الْمَنْزِلَتَيْنِ ، فَعِنْدَهُمْ أَنَّ مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَخْرُجُ مِنَ
الْإِيمَانِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ ! !
وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا : عَلَيْنَا
أَنْ نَأْمُرَ غَيْرَنَا بِمَا أُمِرْنَا بِهِ ، وَأَنْ نُلْزِمَهُ بِمَا
يَلْزَمُنَا ، وَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ
الْمُنْكَرِ ، وَضَمَّنُوهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَى الْأَئِمَّةِ
بِالْقِتَالِ إِذَا جَارُوا ! ! وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ هَذِهِ الشُّبَهِ
الْخَمْسِ فِي مَوَاضِعِهَا . وَعِنْدَهُمْ أَنَّ التَّوْحِيدَ وَالْعَدْلَ مِنَ
الْأُصُولِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي لَا يُعْلَمُ صِحَّةُ السَّمْعِ إِلَّا
بَعْدَهَا ، وَإِذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ،
إِنَّمَا يَذْكُرُونَهَا لِلِاعْتِضَادِ بِهَا ، لَا لِلِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا ،
فَهُمْ يَقُولُونَ : لَا تَثْبُتُ هَذِهِ بِالسَّمْعِ ، بَلِ الْعِلْمُ بِهَا
مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ النَّقْلِ ! فَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَذْكُرُهَا فِي الْأُصُولِ ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهَا عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَذْكُرُهَا لِيُبَيِّنَ مُوَافَقَةَ السَّمْعِ لِلْعَقْلِ ، وَلِإِينَاسِ
النَّاسِ بِهَا ، لَا لِلِاعْتِمَادِ
عَلَيْهَا ! وَالْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ فِيهِ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهُودِ الزَّائِدَيْنِ عَلَى النِّصَابِ ! وَالْمَدَدِ اللَّاحِقِ بِعَسْكَرٍ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمْ ! وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ وَاتَّفَقَ أَنَّ الشَّرْعَ مَا يَهْوَاهُ ! ! كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ : لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتَّبِعُ الْحَقَّ إِذَا وَافَقَ هَوَاهُ ، وَيُخَالِفُهُ إِذَا خَالَفَ هَوَاهُ ، فَإِذًا أَنْتَ لَا تُثَابُ عَلَى مَا وَافَقْتَهُ مِنَ الْحَقِّ ، وَتُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكْتَهُ مِنْهُ ، لِأَنَّكَ إِنَّمَا اتَّبَعْتَ هَوَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ . وَكَمَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، وَالْعَمَلُ يَتْبَعُ قَصْدَ صَاحِبِهِ وَإِرَادَتَهُ ، فَالِاعْتِقَادُ الْقَوِيُّ يَتْبَعُ أَيْضًا عِلْمَ ذَلِكَ وَتَصْدِيقَهُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَابِعًا لِلْإِيمَانِ كَانَ مِنَ الْإِيمَانِ ، كَمَا أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ إِذَا كَانَ عَنْ نِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَانَ صَالِحًا ، وَإِلَّا فَلَا ، فَقَوْلُ أَهْلِ الْإِيمَانِ التَّابِعُ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ ، كَعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ التَّابِعِ لِغَيْرِ قَصْدِ أَهْلِ الصَّلَاحِ . وَفِي الْمُعْتَزِلَةِ زَنَادِقَةٌ كَثِيرَةٌ ، وَفِيهِمْ مَنْ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
** *** *** *** *** *
وَالْجَهْمِيَّةُ : هُمُ الْمُنْتَسِبُونَ إِلَى جَهْمِ
بْنِ صَفْوَانَ التِّرْمِذِيِّ ، وَهُوَ
الَّذِي أَظْهَرَ نَفْيَ الصِّفَاتِ وَالتَّعْطِيلَ ، وَهُوَ أَخَذَ ذَلِكَ عَنِ الْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، الَّذِي
ضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْقَسْرِيُّ بِوَاسِطَ ، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي
يَوْمِ عِيدِ الْأَضْحَى ، وَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، ضَحُّوا تَقَبَّلَ
اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، إِنَّهُ زَعَمَ
أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا ،
تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا
كَبِيرًا ! ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ . وَكَانَ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِفْتَاءِ
عُلَمَاءِ زَمَانِهِ ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَانَ
جَهْمُ بَعْدَهُ بِخُرَاسَانَ
، فَأَظْهَرَ مَقَالَتَهُ هُنَاكَ ، وَتَبِعَهُ عَلَيْهَا نَاسٌ ،: بَعْدَ أَنْ
تَرَكَ الصَّلَاةَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا شَكًّا فِي رَبِّهِ ! وَكَانَ ذَلِكَ
لِمُنَاظَرَتِهِ قَوْمًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، يُقَالُ لَهُمُ السُّمَنِيَّةُ ، مِنْ فَلَاسِفَةِ الْهِنْدِ ،
الَّذِينَ يُنْكِرُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا سِوَى الْحِسِّيَّاتِ ، قَالُوا لَهُ :
هَذَا رَبُّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ ، هَلْ يُرَى أَوْ يُشَمُّ أَوْ يُذَاقُ أَوْ
يُلْمَسُ ؟ فَقَالَ : لَا ، فَقَالُوا : هُوَ مَعْدُومٌ ! ! فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا لَا يَعْبُدُ شَيْئًا ، ثُمَّ لَمَّا خَلَا قَلْبُهُ مِنْ مَعْبُودٍ
يَأْلَهُهُ ، نَقَشَ الشَّيْطَانُ اعْتِقَادًا نَحَتَهُ فِكْرُهُ ، فَقَالَ :
إِنَّهُ الْوُجُودُ الْمُطْلَقُ ! ! وَنَفَى جَمِيعَ الصِّفَاتِ ، وَاتَّصَلَ بِالْجَعْدِ .
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْجَعْدَ
كَانَ قَدِ اتَّصَلَ بِالصَّابِئَةِ
الْفَلَاسِفَةِ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ ، وَأَنَّهُ أَيْضًا أَخَذَ شَيْئًا عَنْ
بَعْضِ الْيَهُودِ الْمُحَرِّفِينَ
لِدِينِهِمْ ، الْمُتَّصِلِينَ بِلَبِيدِ بْنِ
الْأَعْصَمِ ، السَّاحِرِ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقُتِلَ جَهْمٌ بِخُرَاسَانَ ،
قَتَلَهُ سَلْمُ بْنُ أَحْوَزَ وَلَكِنْ
كَانَتْ قَدْ فَشَتْ مَقَالَتُهُ فِي النَّاسِ ، وَتَقَلَّدَهَا بَعْدَهُ الْمُعْتَزِلَةُ . وَلَكِنْ كَانَ
الْجَهْمُ أَدْخَلَ فِي التَّعْطِيلِ مِنْهُمْ
، لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةً ، وَهُمْ لَا يُنْكِرُونَ
الْأَسْمَاءَ بَلِ الصِّفَاتِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي
الْجَهْمِيَّةِ : هَلْ هُمْ مِنَ
الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَمْ لَا ؟ وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ :
وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الثِّنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً -
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ ، وَيُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ . وَإِنَّمَا
اشْتَهَرَتْ مَقَالَةُ
الْجَهْمِيَّةِ مِنْ حِينِ مِحْنَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ
مِنْ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ ، فَإِنَّهُ مِنْ إِمَارَةِ الْمَأْمُونِ قَوُوا
وَكَثُرُوا ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَقَامَ بِخُرَاسَانَ
مُدَّةً وَاجْتَمَعَ بِهِمْ ، ثُمَّ كَتَبَ بِالْمِحْنَةِ مِنْ طَرَسُوسَ سَنَةَ
ثَمَانِ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَفِيهَا مَاتَ ، وَرَدُّوا الْإِمَامَ أَحْمَدَ إِلَى الْحَبْسِ بِبَغْدَادَ إِلَى سَنَةِ عِشْرِينَ ، وَفِيهَا
كَانَتْ مِحْنَتُهُ مَعَ الْمُعْتَصِمِ
وَمُنَاظَرَتُهُ لَهُمْ بِالْكَلَامِ ، فَلَمَّا رَدَّ عَلَيْهِمْ مَا احْتَجُّوا
بِهِ عَلَيْهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ،
وَأَنَّ طَلَبَهُمْ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُوَافِقُوهُمْ وَامْتِحَانَهُمْ
إِيَّاهُمْ - : جَهْلٌ وَظُلْمٌ ، وَأَرَادَ الْمُعْتَصِمُ
إِطْلَاقَهُ ، أَشَارَ عَلَيْهِ مَنْ أَشَارَ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ ضَرْبُهُ ،
لِئَلَّا تَنْكَسِرَ حُرْمَةُ الْخِلَافَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ! فَلَمَّا
ضَرَبُوهُ قَامَتِ الشَّنَاعَةُ فِي الْعَامَّةِ ، وَخَافُوا ، فَأَطْلَقُوهُ .
وَقِصَّتُهُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّارِيخِ .
وَمِمَّا انْفَرَدَ بِهِ جَهْمٌ : أَنَّ
الْجَنَّةَ وَالنَّارَ تَفْنَيَانِ ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَعْرِفَةُ
فَقَطْ ، وَالْكُفْرُ هُوَ الْجَهْلُ فَقَطْ ، وَأَنَّهُ لَا فِعْلَ لِأَحَدٍ فِي
الْحَقِيقَةِ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، وَأَنَّ النَّاسَ إِنَّمَا تُنْسَبُ
إِلَيْهِمْ أَفْعَالُهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، كَمَا يُقَالُ تَحَرَّكَتِ
الشَّجَرَةُ ، وَدَارَ الْفَلَكُ ، وَزَالَتِ الشَّمْسُ ! وَلَقَدْ أَحْسَنَ
الْقَائِلُ :
عَجِبْتُ لِشَيْطَانٍ دَعَا النَّاسَ جَهْرَةً إِلَى النَّارِ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ جَهَنَّمَ
وَقَدْ نُقِلَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْأَعْرَاضِ وَالْأَجْسَامِ ؟ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ ، هُوَ فَتَحَ عَلَى النَّاسِ الْكَلَامَ فِي هَذَا .
** *** *** *** *** *
وَالْجَبْرِيَّةُ
: أَصْلُ قَوْلِهِمْ مِنَ الْجَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنَّ فِعْلَ
الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طُولِهِ وَلَوْنِهِ ! وَهُمْ عَكْسُ الْقَدَرِيَّةِ
نُفَاةِ الْقَدَرِ ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ إِنَّمَا نُسِبُوا إِلَى الْقَدَرِ
لِنَفْيِهِمْ إِيَّاهُ ، كَمَا سُمِّيَتِ الْمُرْجِئَةُ
لِنَفْيِهِمُ الْإِرْجَاءَ ، وَأَنَّهُ لَا أَحَدَ مُرْجَأٌ لِأَمْرِ
اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ تُسَمَّى الْجَبْرِيَّةُ "
قَدَرِيَّةً " لِأَنَّهُمْ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ ، وَكَمَا
يُسَمَّى الَّذِينَ لَا يَجْزِمُونَ بِشَيْءٍ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، بَلْ
يَغْلُونَ فِي إِرْجَاءِ كُلِّ أَمْرٍ حَتَّى الْأَنْوَاعِ ، فَلَا يَجْزِمُونَ
بِثَوَابِ مَنْ تَابَ ، كَمَا لَا يَجْزِمُونَ بِعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يَتُبْ ، وَكَمَا
لَا يُجْزَمُ لِمُعَيَّنٍ . وَكَانَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَوْلَى يُرْجِئُونَ
عُثْمَانَ وَعَلِيًّا ، وَلَا يَشْهَدُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ ! ! وَقَدْ
وَرَدَ فِي
ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ فِي
السُّنَنِ : مِنْهَا مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ
فِي سُنَنِهِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، إِنْ مَرِضُوا
فَلَا تَعُودُوهُمْ ، وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ . وَرُوِيَ فِي ذَمِّ الْقَدَرِيَّةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ ، تَكَلَّمَ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهَا ،
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ ، بِخِلَافِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي
ذَمِّ الْخَوَارِجِ ، فَإِنَّ فِيهِمْ فِي الصَّحِيحِ وَحْدَهُ عَشَرَةُ
أَحَادِيثَ ، أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ
مِنْهَا ثَلَاثَةً ، وَأَخْرَجَ
مُسْلِمٌ سَائِرَهَا . وَلَكِنَّ مُشَابَهَتَهُمْ لِلْمَجُوسِ
ظَاهِرَةٌ ، بَلْ قَوْلُهُمْ أَرْدَأُ مِنْ قَوْلِ الْمَجُوسِ ، فَإِنَّ الْمَجُوسَ اعْتَقَدُوا
وُجُودَ خَالِقَيْنِ ، وَالْقَدَرِيَّةَ
اعْتَقَدُوا خَالِقِينَ ! ! وَهَذِهِ الْبِدَعُ الْمُتَقَابِلَةُ حَدَثَتْ مِنَ
الْفِتَنِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ، كَمَا ذَكَرَ
الْبُخَارِيُّ فِي
صَحِيحِهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : وَقَعَتِ
الْفِتْنَةُ الْأُولَى ، يَعْنِي مَقْتَلَ عُثْمَانَ
، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ بَدْرٍ أَحَدًا . ثُمَّ وَقَعَتِ
الْفِتْنَةُ [ يَعْنِي الْحَرَّةَ ] ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ أَصْحَابِ
الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدًا . ثُمَّ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ ، فَلَمْ تَرْتَفِعْ
وَلِلنَّاسِ طَبَاخٌ ، أَيْ عَقْلٌ وَقُوَّةٌ .
فَالْخَوَارِجُ
وَالشِّيعَةُ حَدَثُوا فِي الْفِتْنَةِ الْأُولَى ، وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ فِي
الْفِتْنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالْجَهْمِيَّةُ
وَنَحْوُهُمْ بَعْدَ الْفِتْنَةِ الثَّالِثَةِ . فَصَارَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا
شِيَعًا - يُقَابِلُونَ الْبِدْعَةَ بِالْبِدْعَةِ ، أُولَئِكَ
غَلَوْا فِي عَلِيٍّ ، وَأُولَئِكَ كَفَّرُوهُ ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي
الْوَعِيدِ ، حَتَّى خَلَّدُوا بَعْضَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي
الْوَعْدِ حَتَّى نَفَوْا بَعْضَ الْوَعِيدِ أَعْنِي
الْمُرْجِئَةَ ! وَأُولَئِكَ غَلَوْا فِي التَّنْزِيهِ حَتَّى
نَفَوْا الصِّفَاتِ ، وَهَؤُلَاءِ غَلَوْا فِي الْإِثْبَاتِ ، حَتَّى وَقَعُوا فِي
التَّشْبِيهِ ! وَصَارُوا يَبْتَدِعُونَ مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْمَسَائِلِ مَا
لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، وَيُعْرِضُونَ عَنِ الْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَفِيهِمْ مَنِ
اسْتَعَانَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْأَوَائِلِ : الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ وَالصَّابِئِينَ ، فَإِنَّهُمْ
قَرَءُوا كُتُبَهُمْ ، فَصَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ مَا أَدْخَلُوهُ فِي
مَسَائِلِهِمْ وَدَلَائِلِهِمْ ، وَغَيَّرُوهُ فِي اللَّفْظِ تَارَةً ، وَفِي
الْمَعْنَى أُخْرَى ! فَلَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، وَكَتَمُوا حَقًّا جَاءَ
بِهِ نَبِيُّهُمْ ، فَتَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا وَتَكَلَّمُوا حِينَئِذٍ فِي
الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ وَالتَّجْسِيمِ ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا
وَسَبَبُ ضَلَالِ هَذِهِ
الْفِرَقِ وَأَمْثَالِهِمْ ، عُدُولُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ،
الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا
تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [ الْأَنْعَامِ : 153 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ يُوسُفَ :
108 ]
فَوَحَّدَ لَفْظَ صِرَاطِهِ وَسَبِيلِهِ ، وَجَمَعَ السُّبُلَ الْمُخَالِفَةَ لَهُ
. وَقَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَطَّ
لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا ، وَقَالَ :
هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ ، ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ،
وَقَالَ : هَذِهِ سُبُلٌ ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ ،
ثُمَّ قَرَأَ : وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ [ الْأَنْعَامِ : 153 ] .
وَمِنْ هَاهُنَا يُعْلَمُ أَنَّ اضْطِرَارَ الْعَبْدِ إِلَى سُؤَالِ هِدَايَةِ
الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَوْقَ كُلِّ ضَرُورَةٍ ، وَلِهَذَا شَرَعَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الصَّلَاةِ قِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ، إِمَّا
فَرْضًا أَوِ إِيجَابًا ، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ،
لِاحْتِيَاجِ الْعَبْدِ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ الْعَظِيمِ الْقَدْرِ ،
الْمُشْتَمِلِ عَلَى أَشْرَفِ الْمَطَالِبِ وَأَجَلِّهَا . فَقَدْ أَمَرَنَا
اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ : اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [ الْفَاتِحَةِ : 6 - 7 ] . وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : لَتَتَّبِعُنَّ
سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ ، حَتَّى لَوْ
دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ :
الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟
قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ : مَنِ
انْحَرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ
، وَمَنِ انْحَرَفَ مِنَ الْعُبَّادِ فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى . فَلِهَذَا تَجِدُ أَكْثَرَ
الْمُنْحَرِفِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ ، مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ - فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ ، حَتَّى أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ يَقْرَءُونَ كُتُبَ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَيَسْتَحْسِنُونَ طَرِيقَتَهُمْ
، وَكَذَا شُيُوخُ الْمُعْتَزِلَةِ يَمِيلُونَ
إِلَى الْيَهُودِ
وَيُرَجِّحُونَهُمْ عَلَى النَّصَارَى . وَأَكْثَرُ
الْمُنْحَرِفِينَ مِنَ الْعُبَّادِ ، مِنَ الْمُتَصَوِّفَةِ وَنَحْوِهِمْ -
فِيهِمْ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى ، وَلِهَذَا
يَمِيلُونَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَشُيُوخُ هَؤُلَاءِ يَذُمُّونَ الْكَلَامَ وَأَهْلَهُ ،
وَشُيُوخُ أُولَئِكَ يَعِيبُونَ طَرِيقَةَ هَؤُلَاءِ وَيُصَنِّفُونَ فِي ذَمِّ
السَّمَاعِ وَالْوَجْدِ وَكَثِيرٍ مِنَ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ الَّتِي
أَحْدَثَهَا هَؤُلَاءِ .
وَلِفِرَقِ
الضَّلَالِ فِي الْوَحْيِ طَرِيقَتَانِ : طَرِيقَةُ التَّبْدِيلِ ، وَطَرِيقَةُ التَّجْهِيلِ .
أَمَّا أَهْلُ التَّبْدِيلِ فَهُمْ نَوْعَانِ : أَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ ،
وَأَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ . فَأَهْلُ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ ، هُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْجَنَّةِ
وَالنَّارِ بِأُمُورٍ غَيْرِ مُطَابِقَةٍ لِلْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ ! لَكِنَّهُمْ
خَاطَبُوهُمْ بِمَا يَتَخَيَّلُونَ بِهِ وَيَتَوَهَّمُونَ بِهِ أَنَّ اللَّهَ
شَيْءٌ عَظِيمٌ كَبِيرٌ ، وَأَنَّ الْأَبَدَانَ تُعَادُ ، وَأَنَّ لَهُمْ نَعِيمًا
مَحْسُوسًا ، وَعِقَابًا مَحْسُوسًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ ،
لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْجُمْهُورِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا فَهُوَ كَذِبٌ
لِمَصْلَحَةِ الْجُمْهُورِ ! ! وَقَدْ وَضَعَ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ قَانُونَهُمْ
عَلَى هَذَا الْأَصْلِ .
وَأَمَّا أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلِ ، فَهُمُ
الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يَقْصِدُوا بِهَذِهِ
الْأَقْوَالِ مَا هُوَ الْحَقُّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّ الْحَقَّ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ هُوَ مَا عَلِمْنَاهُ بِعُقُولِنَا ! ثُمَّ يَجْتَهِدُونَ فِي
تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ إِلَى مَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ بِأَنْوَاعِ
التَّأْوِيلَاتِ ! ! وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ لَا يَجْزِمُونَ بِالتَّأْوِيلِ
، بَلْ يَقُولُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ كَذَا . وَغَايَةُ مَا مَعَهُمْ
إِمْكَانُ احْتِمَالِ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا أَهْلُ التَّجْهِيلِ وَالتَّضْلِيلِ ، الَّذِينَ
حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ : إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَ الْأَنْبِيَاءِ
جَاهِلُونَ ضَالُّونَ ، لَا يَعْرِفُونَ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ
نَفْسَهُ مِنَ الْآيَاتِ وَأَقْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ ! وَيَقُولُونَ : يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ لِلنَّصِّ تَأْوِيلٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ، لَا يَعْلَمُهُ
جَبْرَائِيلُ وَلَا مُحَمَّدٌ
وَلَا غَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، فَضْلًا عَنِ الصَّحَابَةِ
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [ طه : 5 ] . إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [ فَاطِرٍ : 10 ] . مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ
وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ
الْآيَاتِ ! بَلْ مَعْنَاهَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا
اللَّهُ تَعَالَى ! ! وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذِهِ طَرِيقَةُ السَّلَفِ ! ! ثُمَّ
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا خِلَافُ مَدْلُولِهَا الظَّاهِرِ
الْمَفْهُومِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ ، كَمَا لَا يُعْلَمُ وَقْتُ السَّاعَةِ !
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ تُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهَا وَتُحْمَلُ عَلَى
ظَاهِرِهَا ! ! وَمَعَ هَذَا ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا اللَّهُ ،
فَيَتَنَاقَضُونَ حَيْثُ أَثْبَتُوا لَهَا تَأْوِيلًا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَا ،
وَقَالُوا مَعَ هَذَا : إِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَهَؤُلَاءِ
مُشْتَرِكُونَ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ
بِالنُّصُوصِ الَّتِي يَجْعَلُونَهَا مُشْكِلَةً أَوْ مُتَشَابِهَةً ، وَلِهَذَا
يَجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ الْمُشْكِلَ مِنْ نُصُوصِهِ غَيْرَ مَا يَجْعَلُهُ
الْفَرِيقُ الْآخَرُ مُشْكِلًا . ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَمْ يَعْلَمْ
مَعَانِيَهَا أَيْضًا ! وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : عَلِمَهَا وَلَمْ يُبَيِّنْهَا
، بَلْ أَحَالَ فِي بَيَانِهَا عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ ، وَعَلَى مَنْ
يَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ تِلْكَ النُّصُوصِ ! ! فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ
فِي أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ أَوْ لَمْ يُعَلَّمْ ، بَلْ نَحْنُ عَرَفْنَا
الْحَقَّ بِعُقُولِنَا ثُمَّ اجْتَهَدْنَا فِي حَمْلِ كَلَامِ الرَّسُولِ عَلَى
مَا يُوَافِقُ عُقُولَنَا ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ لَا
يَعْرِفُونَ الْعَقْلِيَّاتِ ! ! وَلَا يَفْهَمُونَ السَّمْعِيَّاتِ ! ! وَكُلُّ
ذَلِكَ ضَلَالٌ وَتَضْلِيلٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ . نَسْأَلُ اللَّهَ
السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ ، مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْوَاهِيَةِ ، الْمُفْضِيَةِ
بِقَائِلِهَا إِلَى الْهَاوِيَةِ .
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
No comments:
Post a Comment